طلب مني العديد من القراء الأصدقاء التركيز على رواد الفكر التنويري، أمثال المفكرين: سلامة موسى،(1887-1958)، وحسن حنفي، (1935-2021)، وفؤاد زكريا، (1927-2010)، وفرج فوده، (1945-1992)، وغيرهم العشرات من مصر.
وكلهم كان تأثيرهم قوياً على الفكر التنويري، لكني سأتناول باستفاضة رائد التنوير، من العراق، المفكر علي حسين محسن عبد الجليل الوردي (1913- 1995)، عالم اجتماع، مفكر ومؤرخ، الذي كان يتبنى النظريات الاجتماعية لتحليل الواقع الاجتماعي، واستخدم تلك النظريات بغرض تحليل بعض الأحداث التاريخية، كما فعل في كتاب وعّاظ السلاطين.
وجاء لقب عائلته (الوردي) نسبةً لجده الأكبر، الذي كان يعمل في صناعة تقطير ماء الورد.
كتب الوردي ثمانية عشرة كتاباً، ومئات البحوث، خمسة من كتبه نشرها قبل ثورة 14 تموز 1958، وكانت ذات أسلوب أدبي نقدي، ومضامين تنويرية جديدة وساخرة، لم يألفها المجتمع، لذلك واجهت أفكاره وآراءه الاجتماعية الجريئة انتقادات لاذعة، وبخاصة كتابه وعّاظ السلاطين، مؤكداً أن الطبيعة البشرية لا يمكن إصلاحها بالوعظ وحده، وإن الوعّاظ أنفسهم لا يتبعون النصائح التي ينادون بها، وهم يعيشون على موائد المترفين، كما أكد بأنه ينتقد وعّاظ الدين، وليس الدين نفسه.
ويقول عنه رفيق دربه الأستاذ حسين محفوظ: "كان مؤمنًا بالله، متجاوزاً الولاء للهويات الضيقة".
أما الكتب التي ألفها وصدرت بعد ثورة 14 تموز 1958، فقد اتسمت بطابع علمي، لوضع نظرية اجتماعية حول طبيعة المجتمع العراقي، وفي مقدمتها كتبه: في طبيعة المجتمع العراقي، ومنطق ابن خلدون، ولمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، الذي صدر في ثمانية أجزاء.
وكانت معظم أطروحات الوردي وأفكاره، تزعج السلطة الحاكمة، الأمر الذي دعا إلى التضييق عليه، وسحب لقب الأستاذية منه، وصولاً إلى سحب معظم كتبه من المكتبات وحظرها، مروراً بمحاولات تهميشه وافقاره مادياً، وهو ما آل إليه حاله، حيث توفى منسياً مريضاً في 1995.
لقد تأثر الوردي كثيراً بفكر ابن خلدون، وقد كان موضوع اطروحته للدكتوراه.
وهو أول من دعا إلى "علم اجتماع عربي"، لدراسة المجتمع العربي في ضوء خصوصياته الجغرا- ثقافية، انطلاقًا من فكر ابن خلدون، وركز الوردي على عامل البداوة وقيمها وأثرها في تكوين الشخصية العربية.
لقد تنبأ الوردي بانفجار الوضع، مثلما تنبه إلى جذور العصبيات التي تتحكم بشخصية الفرد العربي عموماً والعراقي خصوصاً، والتي هي واقع مجتمعي تمتد جذوره إلى القيم والأعراف الاجتماعية والعصبيات الطائفية والعشائرية والحزبية التي ما زالت تتحكم في مجتمعاتنا حتى اللحظة. وكذلك إلى الاستبداد السلطوي، الزمني والتزامني، الذي شجع وما يزال يشجع على إعادة إنتاج الرواسب الاجتماعية والثقافية التقليدية القديمة وترسيخها من جديد.
كما حمّل بشدة في معظم أطروحاته على أسلوب الخطابة والحماسة الذي يمجد الذات الحاكمة، دون النظر إلى سلبياتها وهوانها، وهو ما درجت عليه أغلب النخب المثقفة.
لقد أثار علي الوردي، الكثير من الأفكار النقدية الجريئة، وكان من البديهي أن يتعرض للنقد والتجريح والهجوم من اليمين واليسار، من المتسلقين والمتملقين والمنافقين.
ومن أهم إصداراته منذ عام 51 إلى 65:
- الازدواجية الشخصية للفرد العربي.
- مهزلة العقل البشري.
- وعّاظ السلاطين.
- خوارق اللاشعور.
- هكذا قتلوا قرة العين.
- تاريخ العراق الحديث
- الأحلام بين العلم والعقيدة.
- منطق ابن خلدون.
- أسطورة الأدب الرفيع.
والآن وبعد ثلاثين عاماً على رحيله، مازال الوردي حيّاً بيننا، وتظهر أفكاره التنويرية وتنتشر بين الشباب في مجتمعاتنا العربية بقوة، أفكار مؤثرة، من أجل التغيير الإيجابي الذي نحلم به جميعاً.
---------------------------
بقلم: د. أنيسة فخرو
سفيرة السلام والنوايا الحسنة
المنظمة الاوروبية للتنمية والسلام
ضوء | رواد التنوير في الوطن العربي (٣)
